كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} أي: بالإنفاق في سبيل الله، لشدة محبة المال {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} أي: لاستيلاء الرذيلة عليهم، والموصول إما مبتدأ وخبره محذوف، أي: لهم وعيد شديد، أو خبر ومبتدؤه محذوف، أي: هم اللذين، أو بدل من كل.
{وَمَن يَتَوَلَّ} أي: يعرض عن ذكر الله وما أمر به {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} أي: عنه، لاستغنائه بذاته {الْحَمِيدِ} أي: لاستقلاله بكماله، وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق، لا لما يعود عليه تعالى، فإنه الغنيّ المطلق.
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} أي: بالحجج والبراهين القاطعة على صحة ما يدعون إليه {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} أي: التامّ في الحكم والأحكام {وَالْمِيزَانَ} أي: العدل، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما. قال ابن كثير: وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة، المخالفة للآراء السقيمة {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} أي: بالحق والعدل، وهو إتباع الرسل فيما أمروا به، وتصديقهم فيما أخبروا عنه، فإن الذي جاؤوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق، كما قال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115]. أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأوامر والنواهي، ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوؤوا غرف الجنات: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 43].
{وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} يعني القتال به، فإن آلات الحروب متخذة منه {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} أي: في مصالحهم ومعايشهم، فما من صناعة إلا وللحديد يدٌ فيها.
فإن قيل: الجمل المتعاطفة لابد فيها من المناسبة، وأين هي في إنزال الحديد مع ما قبله؟
فالجواب: أن بينهما مناسبة تامة؛ لأن المقصود ذكر ما يتم به انتظام أمور العالم في الدنيا حتى ينالوا السعادة في الأخرى، ومن هداه الله من الخواص العقلاء ينتظم حاله في الدارين بالكتب والشرائع المطهرة، ومن أطاعهم وقلدهم من العامة بإجراء قوانين الشرع العادلة بينهم، ومن تمرد وطغى وقسا يضرب بالحديد الرادّ لكل مَريد. وإلى الأولين أشار بقوله: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} فجمعهم وأتباعهم في جملة واحدة، وإلى الثالث أشار بقوله: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ} فكأنه قال: أنزلنا ما يهتدي به الخواصّ، وما يهتدي به من لم يتبعهم، فهي حينئذ معطوفة، لا معترضة لتقوية الكلام كما توهم، إذ لا داعي له، وليس في الكلام ما يقتضيه، بل فيه ما ينافيه. قال العتبي: في أول (تاريخه): كان يختلج في صدري أن في الجمع بين الكتاب والميزان والحديد تنافرًا، وسألت عنه فلم أحصل على ما يزيح العلة وينقع الغلة، حتى أعملت التفكر، فوجدت الكتاب قانون الشريعة، ودستور الأحكام الدينية، يتضمن جوامع الأحكام والحدود، وقد حظر فيه التعادي والتظالم، ودفع التباغي والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل، ولم يكن يتم إلا بهذه الآلة، فلذا جمع {الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} وإنما تحفظه العامة على اتباعها بالسيف، وجذوة عقابه، وعذاب عذابه، وهو الحديد الذي وصفه الله بالبأس الشديد. فجمع بالقول الوجيز، معاني كثيرة الشعوب، متدانية الجنوب، محكمة المطالع، مقومة المبادئ والمقاطع، نقله الشهاب.
وأوّل القاشانيّ {الْبَيِّنَاتِ} بالمعارف والحكم، و{الْكِتَابُ} بالكتابة، و{الْمِيزَانَ} بالعدل، لأنه آلته، و{الْحَدِيدِ} بالسيف، لأنه مادته، قال: وهي الأمور التي بها يتم الكمال النوعي، وينضبط الكليّ المؤدي على صلاح المعاش والمعاد؛ إذ الأصل المعتبر والمبدأ الأول، وهو العلم والحكمة. والأصل المعول عليه في النوع الاستقامة في طريق الكمال هو العدل، ثم لا ينضبط النظام ولا يتمشى صلاح الكل إلا بالسيف والقلم الذين يتم بهما أمر السياسة؛ فالأربعة هي أركان كمال النوع، وصلاح الجمهور. ويجوز أن تكون {الْبَيِّنَاتِ} إشارة إلى المعارف والحقائق النظرية، و{الْكِتَابُ} إشارة إلى الشريعة والحكم العملية و{الْمِيزَانَ} إلى العمل بالعدل والسوية و{الْحَدِيدِ} إلى القهر ودفع شرور البرية. وقيل: {الْبَيِّنَاتِ} العلوم الحقيقية، والثلاثة الباقية هي النواميس الثلاثة المشهورة المذكورة في الكتب الحكمية، أي: الشرع، والدينار المعدل للأشياء في المعاوضات، والملك. وأيًّا ما كان فهي الأمور المتضمنة للكمال الشخصيّ والنوعيّ في الدارين؛ إذ لا يحصل كمال الشخص إلا بالعلم والعمل، ولا كمال النوع إلا بالسيف والقلم، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأن الْإِنْسَاْن مدني بالطبع، محتاج إلى التعامل والتعاون، لا تمكن معيشته إلا بالاجتماع، والنفوس إما خيّرة أحرار بالطبع، منقادة للشرع، وإما شريرة عبيد بالطبع آبية للشرع؛ فالأولى يكفيها في السلوك طريق الكمال والعمل بالعدالة واللطف وسياسة الشرع، والثانية لابد لها من القهر وسياسة الملك. انتهى.
تنبيه:
لشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في معنى نزول القرآن ولفظ النزول، حيث ذكر في كتاب الله تعالى، بيّن فيها أن كثيرًا من الناس فسروا النزول في مواضع من القرآن بغير ما هو معناه المعروف؛ لاشتباه المعنى في تلك المواضع، وصار ذلك حجة لمن فسر نزول القرآن بتفسير أهل البدع، وحقق رحمه الله أن ليس في القرآن ولا في السنة لفظ: نزول إلا فيه معنى النزول المعروف، قال: وهو اللائق بالقرآن، فإنه نزل بلغة العرب، ولا تعرف العرب منزولًا إلا بهذا المعنى، ولو أريد غير هذا المعنى لكان خطابًا بغير لغتها. ثم هو استعمال اللفظ المعروف له معنى، في معنى آخر بلا بيان، وهذا لا يجوز بما ذكرنا، قال: وقد ذكر سبحانه إنزال الحديد، والحديد يخلق في المعادن، وما يذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن آدم عليه السلام نزل من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد: السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة، فهو كذب لا يثبت مثله. وكذلك الحديث الذي رواه الثعلبي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض، فأنزل الحديد والماء والنار والملح، حديث موضوع ومكذوب والناس يشهدون أن هذه الأمة تصنع من حديد المعادن ما يريدون. فإن قيل: إن آدم عليه السلام نزل معه جميع الآلات، فهذه مكابرة للعيان.
فإن قيل: بل نزل معه آلة واحدة، وتلك لا تعرف، فأي فائدة في هذا لسائر الناس؟ ثم ما يصنع بهذه الآلات إذا لم يكن ثّم حديد موجود يطرق بهذه الآلات؟ وإذا خلق الله الحديد صنعت منه هذه الآلات.
ثم أخبر أنه أنزل الحديد، فكان المقصود الأكبر بذكر الحديد هو اتخاذ آلات الجهاد منه، الذي به ينصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا لم ينزل من السماء.
فإن قيل: نزلت الآلة التي يطبع بها. قيل: فالله أخبر أنه أنزل الحديد لهذه المعاني المتقدمة، والآلة وحدها لا تكفي، بل لابد من مادة يصنع بها آلات الجهاد.
ثم قال: وجعل بعضهم نزول الحديد بمعنى الخلق، لأنه أخرجه من المعادن، وعلمهم صنعته، فإن الحديد إنما يخلق المعادن، والمعادن إنما تكون في الجبال؛ فالحديد ينزله الله من معادنه التي في الجبال، لينتفع به بنو آدم. انتهى كلامه رحمه الله.
وقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} أي: باستعمال الحديد في مجاهدة أعدائه. عطف على محذوف دلّ عليه ما قبله، أي: لينتفعوا به ويستعملوه في الجهاد، وليعلم الله.... إلخ. وحذف المعطوف عليه إيماء إلى أنه مقدمة لما ذكر، وهذا المقصود منه. أو اللام متعلقة بمحذوف، أي: أنزله ليعلم... إلخ والجملة معطوفة على ما قبلها؛ فحذف المعطوف، وأقيم متعلقة مقامه، وقيل: عطف على {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} قال الشهاب: وهو قريب بحسب اللفظ، بعيد بحسب المعنى.
{إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ} أي: على إهلاك من أراد إهلاكه {عَزِيزُ} أي: غالب قاهر لمن شاء.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم} أي: من الذرية {مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: خارجون عن طاعته بترك نصوص كتبه وتحريفها، وإيثار آراء الأحبار والرهبان عليها، واجترام ما نهوا عنه {ثُمَّ قَفَّيْنَا} أي: أتبعنا {عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} أي: حنانًا ورقةً على الخلق لكثرة ما وصى به عيسى عليه السلام، من الشفقة وهضم النفس والمحبة، وكان في عهده أمتان عظيمتا القسوة والشدة: اليهود والرومان، وهؤلاء أشد قسوة، وأعظم بطشًا، لا سيما في العقوبات، فقد كان لهم أفانين في تعذيب النوع البشريّ بها، ومنها تسليط الوحوش المفترسة عليه، وتربيتها لذلك، مما جاءت البعثة المسيحية على أثرها، وجاهدت في مطاردتها، وصبرت على منازلتها، حتى ظهرت عليها بتأييده تعالى ونصره- كما بينه آخر سورة الصف- {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي: ما فرضناها عليهم، وإنما هم التزموها من عند أنفسهم.
{إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ} استثناء منقطع، أي: ولكنهم ابتدعوها طلبَ مرضاة الله عنهم.
{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي: ما قاموا بما التزموه منها حق القيام من التزهد، والتخلي للعبادة وعلم الكتاب، بل اتخذوها آلة للترؤس والسؤدد وإخضاع الشعب لأهوائهم.
{فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} يعني الذين آمنوا الإيمان الخالص عن شوائب الشرك والابتداع، ومنه الإيمان بمحمد صلوات الله عليه، المبشر به عندهم.
{وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: خارجون عن مواجب الإيمان ومقاصده.
تنبيهات:
الأول: الرهبانية هي المبالغة في العبادة والرياضة، والانقطاع عن الناس، وإيثار العزلة والتبتل، وأصلها الفعلة المنسوبة إلى الرهَّبان، وهو الخائف، فعلان، من رهب، كخشيان من خشي.
الثاني: قال ابن كثير في قوله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}: ذَمٌ لهم من وجهين:
أحدهما: في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله.
والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل.
الثالث: رأيت في كثير من مؤلفات علماء المسيحيين المتأخرين ذم بدعة الرهبنة وما كان لتأثيرها في النفوس والأخلاق من المفاسد والأضرار، فقد قال صاحب (ريحانة النفوس) منهم، في الباب السابع عشر، في الرهبنة:
إن الرهبنة قد نشأت من التوهم بأن الانفراد عن معاشرة الناس، واستعمال التقشفات والتأملات الدينية، هي ذات شأن عظيم، ولكن لا يوجد سند لهذا الوهم في الكتب المقدسة لأن مثال المسيح، ومثال رسله يضادانه باستقامة، فإنهم لم يعتزلوا عن الاختلاط بالناس، لكي يعيشوا بالانفراد، بل إنما كانوا دائمًا مختلطين بالعالم، يعلّمون وينصحون. ونحن نقول بكل جراءة: إنه لا يوجد في جميع الكتاب المقدس مثال للرهبنة، ولا يوجد أمر من أوامره يلزم بها، بل العكس، فإن روح الكتاب وفحواه يضادّ كل دعوى مبنية على العيشة المنفردة المقرونة بالتقشفات، ولكن مع أن الكتاب المقدس لا يمدح العيشة الانفرادية، فقد ظهر الميل الشديد إليها في الكنيسة، في أواخر الجيل الثاني وأوائل الجيل الثالث، وأيد الباحثين المقاومين لها وقتئذ، أنها عادة سرت للمسيحيين من الهنود الوثنيين السمانيين، فإن لهم أنواعًا كثيرة من عبادات تأمر كهنتها بالبتولية والامتناع عن أكل اللحم وأمورًا أخرى مقرونة بخرافات.
ثم قال: ومع أن الرهبنة حصل عليها مقاومة من العقلاء، امتدت وانتشرت في المسكونة، وكان ابتداؤها في مصر في الجيل الرابع، على أثر اشتهار أحد الرهبان وممارسته التقشفات، بسبب الاضطهاد الذي أصابه، وآثر لأجله الطواف في البراري، فرارًا من أيادي مضطهديه، ثم عطف على الوحدة وعاش بها، وذلك في الجيل الثالث. ثم امتدت من مصر إلى فلسطين وسورية إلى أكثر الجهات؛ توهمًا بأن رسم المسيحية الكاملة لا يوجد إلا في المعيشة الضيقة القشفة، فدعا ذلك كثيرين إلى ترك المعيشة المألوفة بالاعتزال في الأديرة مع أن ذلك الوهم باطل، ومضادّ للكتب المقدسة، ولما كثر عدد البرهان كثرة هائلة، ونجم عن حالهم أضرار عظيمة للمجتمع، أصدر كثير من الملوك أوامر بمنع هذه العادة، إلا أنها لم تنجح كثيرًا.
وأما بدعة العزوبة والتبتل، فنشأت من حضّ بولس عليها، وترغيبهم فيها، كما أفصح عنه كلامه في آخر الفصل السابع من رسالته الأولى.
وقد قال صاحب (ريحانة النفوس) أيضًا: إن هذه العادة لا يوجد لها برهان في الكتاب المقدس، وإنما دخلت بالتدريج، لما خامرهم من توهم أفضلية البتولية، وظنهم أنها أزكى من الزواج، ومدح من جاء على أثرهم لها مدحًا بالغًا النهاية في الإطراء، فحسبوها من الواجبات الأدبية المأمور بها، ووضع نظام وقوانين لوجوبها في الجيل الثالث، حتى قاومتها كنائس أخرى، ورفضت بدعة البتولية وقوانينها، لمغايرتها للطبيعة، ومضادتها لنص الكتب الإلهية، واستقرائها أديرة الراهبات، بأنها في بعض الأماكن كانت بيوتًا للفواحش والفساد.
وفي كتاب (البراهين الإنجيلية ضد الأباطيل الباباوية): إن ذم الزيجة خطأ لأنها عمل الأفضل، لأن الرسول أخبر بأن الزواج خير من التوقد بنار الشهوة، وإن الأكثرين من رسل المسيح كانوا ذوي نساء، تجول معهم. ومن المعلوم أن الطبيعة البشرية تغصب الْإِنْسَاْن على استيفاء حقها، ومن العدل أن تستوفيه، وليس بمحرم عليها استيفاؤه حسب الشريعة، ولا استطاعة لجميع البشر على حفظ البتولية؛ ولذلك نرى كثيرين من الأساقفة والقسوس والشمامسة، لا بل الباباوات المدعين بالعصمة، قد تكردسوا في هوة الزنا لعدم تحصنهم بالزواج الشرعي، هذا وإن ذات النذر بالامتناع عن الزواج هو غير عادل لتضمنه سلب حقوق الطبيعة وكونه يضع الإنسان تحت خطر السقوط في الزنا ويفتح بابًا واسعًا لدخول الشيطان، وكأن الراهب ينذر على نفسه مقاومة أمرقبيح، ويعدم وجود ألوف ألوف، ربما كانت تتولد من ذريته، فكأنه قد قتلها. وهذا النذر لم تأمر به الشريعة الإنجيلية قط؛ فالطريقة الرهبانية هي اختراع شيطاني قبيح، لم يكن له رسم في الكتب المقدسة، ولا في أجيال الكنيسة الأولى، وهو مضر على أنفس الرهبان، وعلى الشعب، فمن يقاومه يقاوم الشيطان. وهؤلاء الرهبان لا نفع منهم للرعية، إنما هم كالأمراء الذين يتخذون لأنفسهم قصورًا خارج العمران، فيتنعمون وحدهم في أديرتهم، ويسلبون أموال الشعب بالحيل والمخادعات وهم كسالى بطّالون، يعيشون من أتعاب غيرهم، خلافًا لسلوك رسل المسيح والمبشرين القدماء، الذين لم نر واحدًا منهم انفرد عن العالم في مكان نزهته، واحتال بأن يعيش من أتعاب الشعب؛ إن بولس كان يخدم الكنائس، ويعيش من شغل يديه، وهو يوصي بأن الذي لا يعمل، فلا يطعم. ولا تتسع الصحف لشرح جميع الأضرار التي وقعت على العالم بسبب الرهبنات. انتهى. وهو حجة عليهم منهم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قال ابن كثير: حمل ابن عباس هذه الآية على مؤمني أهل الكتاب، وأنهم يؤتون أجرهم مرتين، كما في الآية التي في القصص، وكما في حديث الشعبي عن أبي بردة، عن أبيه موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، فله أجران، وعبد مملوك أدّى حق الله وحق مولاه، فله أجران، ورجل أدبَ َأمَتهُ فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران» أخرجاه في الصحيحين. ووافق ابن عباس على هذا التفسير الضحاك وعتبة بن أبي حكيم وغيرهما، وهو اختيار ابن جرير.
وقال سعيد بن جبير: لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى هذه الآية في حق هذه الأمة. والظاهر أن لفظها أعم وأن المقصود بها حث كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم على الثبات في الإيمان والرسوخ فيه، والانصياع لأوامره. ومنه ما حرض عليه في الآيات قبلها من الإنفاق في سبيله، وسخاوة النفس فيه، وأن لهم في مقابلة ذلك أجرًا وافرًا، كما قال في أول السورة: